سورة العنكبوت - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


نصب {قارون} إما بفعل مضمر تقديره اذكر وإما بالعطف على ما تقدم، و{قارون} من بني إسرائيل وهو الذي تقدمت قصته في الكنوز وفي البغي على موسى بن عمران عليه السلام، {وفرعون} مشهور، و{هامان} وزيره، وهو من القبط، والبينات المعجزات والآيات الواضحة، و{سابقين}، معناه مفلتين من أخذنا وعقابنا، وقيل معناه {سابقين} أولياءنا، وقيل معناه {ما كانوا سابقين} الأمم إلى الكفر، أي قد كانت تلك عادة أمم مع رسل، والذين أرسل عليهم الحاصب قال ابن عباس: هم قوم لوط.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويشبه أن يدخل قوم عاد في الحاصب لأن تلك الريح لا بد أنها كانت تحصبهم بأمور مؤذية، والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمى بشيء، ومنه قول الأخطل: [الكامل]
ترمي العضاة بحاصب من ثلجها *** حتى يبيت على العضاة جفالا
ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
مستقبلين شمال الشام تضربهم *** بحاصب كنديف القطن منثور
والذين أخذتهم {الصيحة} قوم ثمود، قاله ابن عباس وقال قتادة: هم قوم شعيب، والخسف كان بقارون، قاله ابن عباس.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويشبه أن يكون أصحاب الرجفة في هذا النوع من العذاب، والغرق كان في قوم نوح، وبه فسر ابن عباس وفي فرعون وحزبه، وبه فسر قتادة، وظلمهم أنفسهم كان بالكفر ووضع العبادة في غير موضعها وقدم المفعول على {يظلمون} للاهتمام وهذا نحو {إياك نعبد} [الفاتحة: 5] وغيره، وحكى الطبري عن قتادة أن رجفة قوم شعيب كان صيحة أرجفتهم على هذا مع ثمود.


شبه تعالى الكفار في عبادتهم الأصنام وبنائهم جميع أمورهم على ذلك ب {العنكبوت} التي تبني وتجتهد وأمرها كلها ضعيف متى مسته أدنى هابة أذهبته فكذلك أمر أولئك وسعيهم مضمحل لا قوة له ولا معتمد، ومن حديث ذكره النقاش: «العنكبوت شيطان مسخه الله تعالى فاقتلوه»، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر»، وقوله {لو كانوا يعلمون}، أي {يعلمون} أن هذا مثلهم وأن حالهم ونسبتهم من الحق هذه الحال، وقوله {إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء}.
قرأ أبو عمرو وسلام {يعلم ما} بالإدغام، وقرأ عامة القراء بالفلك، وقرأ الجمهور {تدعون} بالتاء من فوق، وقرأ أبو عمرو وعاصم بخلاف {يدعون} بالياء من تحت على الغيبة، فأما موضع {ما} من الإعراب فقيل معناه أن الله يعلم الذين يدعون من دونه من جميع الأشياء أن حالهم هذه وأنهم لا قدرة لهم، وقيل قوله {إن الله يعلم} إخبار تام، وقوله {وهو العزيز الحكيم} متصل به، واعترض بين الكلامين {ما تدعون من دونه من شيء}، وذلك على هذا النحو من النظر يحتمل معنيين أحدهما أن تكون {ما} نافية أي لستم تدعون شيئاً له بال ولا قدر ولا خلاق فيصلح أن يسمى شيئاً وفي هذا تعليق {يعلم} وفيه نظر، الثاني أن تكون {ما} استفهاماً كأنه قرر على جهة التوبيخ على هذا المعبود من جميع الأشياء ما هو إذا لم يكن الله تعالى أي ليس لهم على هذا التقرير جواب مقنع البتة، ف {من} على القول الأول والثالث للتبعيض المجرد، وعلى القول الوسط هي زائدة في الجحد ومعناها التأكيد، وقال أبو علي {ما} استفهام نصب ب {تدعون} ولا يجوز نصبها ب {يعلم}، والتقدير أن الله يعلم أوثاناً تدعون من دونه أو غيره لا يخفى ذلك عليه، وقوله {وتلك الأمثال} إشارة إلى هذا المثل ونحوه، و{نضربها} مأخوذ من الضرب أي النوع كما تقول هذان من ضرب واحد وهذا ضريب هذا أي قرينه وشبهه، فكأنه ضرب المثل هو أن يجعل للأمر الممثل ضريب، وباقي الآية بين. وقرأت فرقة {يدعون} بالياء من تحت، وقرأت فرقة {تدعون} بالتاء على المخاطبة، وقال جابر: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {إلا العالون}: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته».


نبه في ذكر خلق {السماوات والأرض} على أمر يوقع الذهن على صغر قدر الأوثان وكل معبود من دون الله، وقوله تعالى: {بالحق} أي بالواجب النير لا للعبث واللعب، بل ليدل على سلطانه ويثبت شرائعه ويضع الدلالات لأهلها ويعم بالمنافع إلى غير ذلك مما لا يحصى عداً، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره وتلاوة القرآن الذي أوحي إليه، وإقامة الصلاة أي إدامتها والقيام بحدودها ثم أخبر حكماً منه {إن الصلاة تنهى} صاحبها وممتثلها {عن الفحشاء والمنكر}.
قال الفقيه الإمام القاضي: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات وتذكر الله تعلى وتوهم الوقوف بين يدي العظمة، وأن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقو ب صلحت لذلك نفسه وتذللت وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأعماله وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى يرجع بها إلى أفضل حاله، فهذا معنى هذا الإخبار لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون، وقد روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه فكلم في ذلك فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى وحق لي هذا مع ملوك النيا فكيف مع ملك الملوك.
قال الفقيه الإمام القاضي: فهذه صلاة تنهى ولا بد الفحشاء والمنكر، ومن كانت صلاته دائرة حول الإجزاء لا خشوع فيها ولا تذكر ولا فضائل فتلك تترك صاحبها من منزلته حيث كان، فإن كان على طريقة معاص تبعده من الله تركته الصلاة يتمادى على بعده وعلى هذا يخرج الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن والأعمش قولهم «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعداً» وقد روي أن الحسن أرسله عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غير صحيح السند، سمعت أبي رضي الله عنه يقوله فإذا قررناه ونظرنا معناه فغير جائز أن نقول إن نفس صلاة العاصي تبعده من الله حتى كأنها معصية، وإنما يتخرج ذلك على أنها لا تؤثر في تقريبه من الله تعالى بل تتركه في حاله ومعاصيه من الفحشاء والمنكر تبعده، فلم تزده الصلاة إلا تقرير ذلك البعد الذي كان بسبيله، فكأنها بعدته حين لم تكف بعده عن الله تعالى، وقيل لابن مسعود إن فلاناً كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها، وقرأ الربيع بن أنس {إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر}، وقال ابن عمر {الصلاة} هاهنا القرآن، وقال حماد بن أبي سليمان وابن جريج والكلبي: إن الصلاة تنهى ما دمت فيها.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذه عجمة وأنى هذا مما روى أنس بن مالك قال: كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئاً من الفواحش والسرقة إلا ركبه، فقيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث أن تاب وصلحت حاله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أقل لكم»؟ وقوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن مسعود وأبو قرة: معناه، {ولذكر الله} إياكم {أكبر} من ذكركم إياه، وقيل معناه {ولذكر الله أكبر} مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، قال ابن زيد وقتادة معناه {ولذكر الله أكبر} من كل شيء، وقيل لسلمان أي الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ القرآن {ولذكر الله أكبر}. ومنه حديث الموطأ عن أبي الدرداء «ألا أخبركم بخير أعمالكم؟» الحديث، وقيل معناه {ولذكر الله} كبير كأنه يحض عليه في هذين التأويلين الأخيرين.
قال الفقيه الإمام القاضي: وعندي أن المعنى {ولذكر الله أكبر} على الإطلاق أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر.
فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل في غير الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر مراقب، وثواب ذلك الذكر أن يذكره الله تعالى كما في الحديث «ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه»، والحركات التي في الصلاة لا تأثير لها في نهي، والذكر النافع هو مع العلم وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى، وذكر الله تعالى العبد هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه، وذلك ثمرة لذكر العبد ربه، قال الله عز وجل {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152] وباقي الآية ضرب من التوعد والحث على المراقبة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8